الثلاثاء، 1 يناير 2019

سيدة الكرب - قصة قصيرة



Distress by: Rashi Chaturvedi


أمي وكأي امرأة عاملة عربية، كان يستعصي عليها أن تأخذ أطفالها معها إلى محل عملها، كانت مديرة الروضة تضيق الخناق على المدرسات؛ حتى يتسنى لهن التركيز في تأدية مهام وظيفتهن على أكمل وجه. مما دفع أمي للبحث عن خادمة، تكون يدًا معاونة لها في شغل المنزل، وفي نفس الوقت تكون عينًا على أطفالها في غيابها، نبيهة هي أمي، فكما نقول؛ ضربت عصفوريْن بحجر واحد. كانت أمي تعود يوميًا -ظهرًا- لتطبخ وتكنس وتغير الحفاظات، وترضِّع، فتنام الساعة التاسعة مساء، لتستيقظ السادسة فجرًا، تفطرنا وتفطر هي إذا لحقت، لتركض خلف باص الروضة، لكنه كان باستمرار يفوتها، وتضطر الذهاب مترجلة.

مريم، أو هكذا سموها في مكتب تشغيل العمالة، فليس من المعتاد أن تُنده الشغالة باسمها الحقيقي، ولكن تُسمى باسمًا مستعارًا، اسم يكون عربيًا، يَسهَل على العميل نطقه، ويستلطفه، كانت نحيفة، قمحية البشرة، ذات شعرًا أسودًا ناعمًا وكثيف، صغيرة الملامح، اعتقد -إذا لم تخني ذاكرتي البصرية- فعمرها لم يتجاوز الثامنة عشر آنذاك، عيناها الواسعتان كانتا دائمًا تلمعان بدموع مكبوتة، وجهها طفولي حزين، خائف، ترتبك دائمًا، كمن يجرب مسئولية ليس معتادًا عليها، وليست تناسبه، وقتها لم أكن قد بلغت سنتي السادسة في هذه الحياة، استغربت أمي، أين ستخصص لها مكانًا يأويها في ذلك البيت الصغير؛ والذي هو عبارة عن غرفتان وممرًا صغيرًا يصل بينهما، غرفة لها هي وأبي، والغرفة الأخرى كانت لي وأخوتي، وهي غرفة المعيشة أيضًا، أمي أتت لها بمرتبة إسفنجية، وأفرغت لها إحدى درفات الخزانة، وصنع أبي لها قفلًا، وضعت فيها أغراضها الخاصة، وأغلقت عليهم بذلك الترباس الهش، كانت –ليلًا- تفرش المرتبة الإسفنجية على أرضية غرفتنا، ثم –نهارًا- تحملها وتواريها خلف الخزانة. لم نفهمها ولم تفهمنا، لم تكن تجيد لا عربية ولا إنجليزية، وكان التعامل معها بالإشارة مع بعض الكلمات الأساسية بالعربية التي تلتقطها من أمي، اعتقد أن أمي كانت على عجالة من أمرها عند جلبها مريم، ومن الأرجح أن سبب اختيارها لها؛ هو أن راتبها كان الأوفر.

كل صباح كانت مريم تجلس منزوية، تحتضن جهاز كاسيت بين أناملها الطفولية، تجلس تسمع شرائطًا لأقاربها، من تفاوت الأصوات ميزت أنهم أبوها وأمها وأخت، تجلس تنصت لحديثهم، وتبكي ببكاء أجش، كنت أقف خلف الباب أراقبها، متوجسًا من تلك الغريبة التي دخلت بيتنا، وتأكل من أكلنا، وتجلس معنا دون وجود أبي أو أمي، خفت منها، توقعت منها فعلًا إجراميًا، تقتل أحد أخوتي أو تؤذيني، أو -على أقل تقدير- تسرق شيئًا من البيت، في أعماق ذاكرتي هناك شيء يخاطبني بأن أبي هو من زرع في ذلك الهاجس عنها، لكي أكون مخبره الصغير الذي ينقل له ما يدور في غيابه.

أبي قد زرع في نبتة ظلت تلاحقني حتى كبري، كنت مخبره الصغير حتى عن أطفاله، وفي بعض الأحيان زوجته كذلك، حتى وجدت نفسي محاصرًا ومقيدًا بين رغبتي في أن أكون المخلص الوفي وبين لهفتي الطفولية في ارتكاب الأخطاء مثلهم، فكان جزائي العقاب والوقوف رافعًا يداي تحت عداد الكهرباء في ذلك الممر الضيق الصغير، وأصبحت من المنبوذين، اعتقد بعدها أنه جنّد عميلًا آخر بكل سهولة، فما أكثر أطفاله!

في صباح أحد الأيام، ومريم تجلس كعادتها في أحد أركان الغرفة، تسمع أحد شرائطها، لمحتني أراقبها، فارتعبت وأغلقت الكاسيت، وحملته، تخبأه في خزانتها، اقتربت منها، تحاشت النظر لي، فضولي دفعني إلى محاولة معرفة اسمها، حاولت الإشارة لها متسائلًا، أجابتني: "مريم" عاودت الإشارة مع استخدام كلمات بالعربية، رغبة مني في معرفة الحقيقي، وليس ذلك الذي لقبوك به، لكنها لم تفهم أبدًا، وظلت تردد: "مريم.. مريم.. مريم" وعيناها المنكسرتان تنظران للسماء من النافذة. أتت أمي في الظهيرة، ووجهها عابس، ومع عبورها عتبة المنزل، وهي تصرخ وتصيح في مريم، ممسكة فاتورة الهاتف، تحاول الشرح لها بالإشارة وبالعربية، أنها ممنوعًا عليها استخدام الهاتف، ممنوعًا عليها المكالمات الدولية، ولا حتى المحلية، انكمشت الفتاة الصغيرة في مكانها، تراجعت للخلف خوفًا، جعلت من الحائط ظهرًا لها، كبتت دموعها، في محاولة لإظهار التماسك، لكن أمي اغتاظت أكثر، ورفعت كفها، وصفعتها على خدها، ذُهلت، هذه أول مرة أرى فيها أمي تضرب أحدًا، ليس من عادتها أن تفعل شيئًا من (شيم) أبي، بالطبع اعتادت على الأمر بعدها، وأصبحت تضربنا وتصفعنا بيدها الصغيرة، لكن هذه! تلك كانت الأعنف، أخرجت أمي في تلك الصفعة كل مخزونها من الغضب، وكأنه مخزون دهرها. انسحبت مريم في هدوء تنوح، دخلت الحمام، ومكثت فيه وقتًا طويلًا، تبكي، حتى ظننت أنها لن تخرج أبدًا.

مشاعري تجاه مريم تغيرت بعد ذلك الموقف، لم أخف منها من بعدها، لم أستطع أن أراها مجرمًا، تلك الفكرة الساذجة التي زُرعت بداخلي عنها، قاومتها، بالعكس شعرت أنها فردٌ منّا، هي أيضًا تُضْرَب مثلنا، تبكي مثلنا، تركض لتختبئ في المكان الوحيد -في ذلك البيت الضئيل- الذي تشعر فيه بخصوصيتك، تنظر في مرآته، ترثى حالك وأنت تبكي، حتى تجف الدموع.

مرت الأيام على نفس الحال، تنزوي مريم صباحًا، تعيد الاستماع إلى الشرائط القديمة، تسمع الجديد الذي يصلها، أخوتي يلهون، وأنا أراقب، لكنني كففت مراقبة المخبر، أصبحت أتمنى لو أفهمها وتفهمني، ويدور بيننا حوار أعرفها منه أكثر، لكنه لم يحدث.

في إحدى الليالي والكل نيام، استيقظت على صوت نحيبها، وهي تحتضن جهاز الكاسيت، استغربتها، هذه أول مرة أراها تستمع لشرائط الكاسيت ليلًا، اعتدتها تأخذ من أبي بريدها، تضعه في خزانتها، دون فتحه، وتفتحه نهارًا، في غيابهما. كنت نعسًا للغاية لأتكشف الأمر، لكن صوت نحيبها المكتوم، ظل في أذني حتى الصباح.

في الصباح، مكثت مريم تروح وتجيء بجوار الهاتف، في تردد بيّن وخوف، لكن وكأن نداءً داخلها أخبرها أن تفعلها، التقطت الهاتف، ونقرت على أزرار أرقامه، وظلت تحادث من تحادثه، ووجهها فزعًا، تتمالك بكاءها، قابضةً على سماعة الهاتف، وكأنها تريد أن تمتزج مع الذبذبات، وتنفذ عبر الأسلاك، فتَعبُر من خلالها لتصل إلى من تحادثه، شعرت بأن هناك مكروهًا قد حدث عند أهلها في بلدها، وقفت هرعًا، لمحتني بطرف عينيها، لكنها لم تعرني انتباهها، وأكملت الإنصات، والرد المقتضب، حتى انهارت في البكاء، وسقطت منها سماعة الهاتف، كمشهد تراجيدي من الأفلام الكلاسيكية، وظلت تنزل إلى الأرض وظهرها يحتضن الحائط، تبكي وتصيح، دون هوادة، ظلت على تلك الحالة، حتى انتشرت العدوى، فأختي الصغرى بكت لبكائها، ومن بعدها أخي، وأنا وقفت في المنتصف، أدور حولي، لم أستوعب ما العمل، ماذا أفعل، الكل يبكي من حولي، سماعة الهاتف ملقاة على الأرض، بجوارها تمكث مريم، تصيح كبركان يخرج حممه التي ظلت مدفونة لدهور، وكأنها أخذتها حجة لتخرج كل ما دفنته بداخلها.

استيقظت في اليوم التالي، هرعًا ابحث عن مريم، لم أجدها، اختفت تمامًا، وجدت خزانتها مفتوحة، فارغة، أمي كانت تحضر أخوتي، وصاحت في، لأسرع وأغتسل، لترمينا عند الخالة ريتا جارتنا. وأنا أنهض من السرير في عجالة، خوفًا من البطش، لمحت كارتًا مكتوبًا بلغة لا أفهمها، نسته مريم في خزانتها، أو تركته لي قصدًا! خطفته سريعًا، وخبأته تحت وسادتي، لأعود له في المساء، وأقص على صديقي التخيلي النقطة -الذي يقطن سقف الغرفة- كم افتقد مريم.

الجمعة، 30 مارس 2018

مذكرات مخبأة في درج الكوميدينو- عم عتيق ودراجته الهوائية (7)

(7)
عم عتيق ودراجته الهوائية


صوت عبد الباسط عبد الصمد مبتهلًا يأتي في الذاكرة مقترنًا بآذان صلاة العشاء من مسجد الشاذلية في الشارع المجاور لبيت جدي، كنت أقف وراء الشباك أنصت له ممتزجًا مع نسمات عليل هواء الإسماعيلية، مع صوت همهمات وضحكات الأطفال يلعبون السبع طوبات أسفل شجرة المستكة القابعة أمام باب جدي. مسجد الشاذلية كان يغلب عليه اللون الأخضر،  الابتهالات والتسابيح في الشاذلية لم يكن لها مواسم أو أوقات معينة، كانت طوال أغلب اليوم، "الصلاة والسلام عليك، يا إمام المجاهدين، ويا خاتم الأنبياء والمرسلين، يا نبي الرحمة، يا سيدي يا رسول الله". كانت توجد غرفة على يمين المنبر، كنت اتلكع ما بين صلاة المغرب والعشاء لاتصنت منبهرًا، يجلس المسبحون حول الإمام يرددون خلفه: "سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدُّك، وتقدست أسماؤك، ولا إله غيرك". بعد صلاة العشاء يأخذني جدي خلفه على دراجته الهوائية، لنذهب إلى أبو حمدي البقال لصرف التموين، كان جدي يعطيني دفتر التموين لأحمله، كنت أنبش به لأطالع صور إعمامي وعماتي وأيضًا أبي صغارًا بالأبيض والأسود، أبي كان يشبه أخي الصغير حينها، نمر بجانب الأطفال يلعبون تحت شجرة المستكة، أنظر لهم أغيظهم وكأني ذاهب في رحلة. في طريقنا كلما مررنا على أحدهم كان جدي يحييه، سواء يعرفه أو لا يعرفه، كنت استغرب فعلته، فيردد لي دائمًا: "حب الناس ليك يدوم بأبسط الحاجات"، في طريق رحلتنا بالدراجة إلى أبو حمدي البقال كنا نمر بجوار بائعة الطعمية، كان ينظر إلي يراني منتشي من رائحة طعميتها اللذيذة، ويغمز لي ويخبرني بأننا سنشتري الطعمية في طريق عودتنا. نحمل تموين الشهر، ويحيي جدي أبو حمدي البقال، نعود أدراجنا إلى البيت، فنمر بجوار ألبان السلسبيل، أقفز من خلف جدي لأشتري الزبادي البلدي وتُمن جبنة اسطنبولي، ونذهب لبائعة الطعمية واشتري الطعمية، ونعود للمنزل.كان جدي يضع السكر على الزبادي، كان يحبها بالسكر، وأنا أحببت حبه لها، وجدتي تقطع البطيخ المثلج، وتقلي البيض بالسمن البلدي والطماطم، ونجلس لنتابع ليالي الحلمية على القناة الأولى. جنازة جدي كانت مهيبة، يومها ومع الكم المهول من الناس التي أتت حزينة على فراقه. تذكرته بابتسامته الحنونة وهو ينظر لي وأنا خلفه على دراجته يقول لي: "حب الناس ليك يدوم بأبسط الحاجات" مات عم عتيق، وضاعت دراجته، لكن الذكرى تظل وحب الناس يدوم.

الأحد، 24 ديسمبر 2017

مذكرات مخبأة في درج الكوميدينو- صدفة كحلم (6)

(6)
صدفة كحلم

يتكرر نفس الحلم كثيرًا تلك الأيام، كنت لا أحلم لفترة كبيرة، مع أني اعتدت أن أنام ساعات كثيرة، إلا أنني لم أكن أحلم، أو بمعنى أصح لم أكن اتذكر الحلم بعد أن استيقظ، ذلك الحلم يراودني كثيرًا، يتكرر باستمرار، مع أن نومي أصبح شبه نادرًا بالمقارنة بما مضى، إلا أنني أتذكر جيدًا الحلم بعد أن استيقظ، من الأرجح أن سبب استحضاري للحلم دومًا هو أنني أراها في الحلم، أخلق الصدفة التي أراها فيها، أراني جالسًا في المقهى مع بعض الأصدقاء اتسامر معهم، أحتسي قهوتي السادة اسكتو، ألمحها تعبر من أمامي، تعطي الرجل كيس البن خاصتها، ليصنع لها فنجانها الخاص، قهوتها اسكتو كذلك، اصطنعت أنني لم أراها، لكنني  تتبعتها بنظري، أراقبها، حتى جلست منفردة في إحدى زوايا مدخل المقهى، المقهى مزدحم، لكنني أراها بوضوح بين الزحام، كانت ملامحها واضحة بالنسبة لي، مع إنها تظهر بعيدة بين الزحام والضوضاء، لم استطع أن أفلتها بنظري، سرحت مع حضورها، ونسيت ما كنت أخبره لصديقي، إنه اعتاد شرودي ذلك، لا يهم، هو الآن يتهامز مع من بجانبه، بالتأكيد فهما يتكلمان عني، أعلم، لكن لا يهم، كنت أرغب في أن أترك جلسة النميمة تلك، وأتحرك ناحيتها، أجلس معها، لأنني افتقدها كثيرًا، خيل لي أنني فعلت ذلك، خيل لي طيفي ينهض، يتوغل الزحام، يجلس أمامها، ينظر إلى عينها البراقة، تبتسم له، فيبتسم لها، لكنه لم يحدث، لم أتحرك، عدت إلى جلسة النميمة، كان صديقي يحدثنا عن آخر علاقاته العاطفية والتي فشلت كعادته، أخبرنا عن أنه كاد لها، والتقط صورة له مع إحدى صديقاته، تشبه صورة له معها عندما كانا يقفان على الرصيف المقابل لمحل الأيس كريم، في شتاء ما، وهو واضعًا كف يده أمام عينيها، يحجبهما عن الكاميرا، أرانا الصورة المكيدة، وفيها الفتاة صديقته تلك، وبدل أن تحمل الأيس كريم، كصورته مع حبيبته، كانت تلوح بإصبعها الأوسط للكاميرا، قال حينها أنها اغتاظت كثيرًا عندما رأت تلك الصورة، وقد ارتاح قلبه عندما غاظها، أو هكذا رأى. لم استوعب فكرة المكايدة بين الأحبة، ولم المكايدة، ونحن نستطيع بكل بساطة وأريحية أن نتذكر اللحظات الجميلة، ونتحرك في سلام في دائرة حياتنا. لمحتها قادمة أمامي تعبر الزحام، باحثة عن الرجل، اصطنعت انشغالي في الحديث مع صحبتي، حسست يد أنثوية على كتفي اليمين، نظرت لها، كانت تبتسم كعادتها، ابتسمت بتلقاء نفسي، وقفت أحييها، تكلمنا سريعًا، حيتني، وانتلقت مغادرة، اختفت تدريجيًا بين الزحام، تمنيت لو كنت تحركت  خلفها، جذبتها واحتضنتها، وقولت لها إنني افتقدها ، وافتقد وجودها، لكنني لم أفعل، استيقظ من نومي ، ذهبت لعملي هائمًا، أنهيت عملي وأخذتني قدماي إلى المقهى لأجلس، متمنيًا أن أراها صدفة، كما الحلم.

الاثنين، 11 ديسمبر 2017

مذكرات مخبأة في درج الكوميدينو- الفرخة العملاقة (٥)


(٥)
الفرخة العملاقة



في صغري اعتدت أن ارتكن على سريري ناحية الحائط، أحوط ساقي بيدي، وأنظر إلى السقف أحادث صديقي التخيلي، كان عبارة عن نقطة في السقف، تخيلته طفلًا - مثلي- يعيش بين نقاطٍ أخرى، هي عبارة عن أبيه وأمه وأخوته، في بيت مصنوعًا من النقط كذلك، له جيرة لطيفة -أيضًا - من النقط، لم أعرف قط سر اهتمامي بالنقطة، إلا عندما قرأت قول الحلاج، في أن النقطة هي أصل كل خط، وكل ما يقع عليه بصر أحد فهو نقطة بين نقطتين، كنت لا أبصر إلا نقاط مجتمعة، أو متفرقة، فالأشياء من حولي ما هي إلا مجرد نقاط تشكلها، ففي النقطة الأصل، أصل الوجود، ودائرة وجودنا من لحظة ميلادنا إلى لحظة السكون - دائرة الحقيقة- ماهي إلا نقاط تتلاحم حتى الفناء. في ذلك اليوم حدثني صديقي التخيلي عن شجار والديه الذي استمر من الليلة السابقة، ظل يحدثني عن شجارهما ثلاث ليالٍ متواصلة، كان يجلس مثلي يركن على سريره متقوقعًا، يسمع صراخهما نافذًا كل الأبواب المغلقة، عابرًا كل طبقات الظلام حتى يخترق أذنيه، يخيفه شجارهما، يجعله يرتعد، يهيئ له أن تلك الليلة هي نهاية العالم، لم يخبرني لما يتشاجران، ولم اسأله، فكنت أعلم. تلك الليلة كانت عيد ميلادي الرابع، هنأني صديقي التخيلي، تحسست طريقي في الظلام، لأريه هدايا عيد الميلاد، كان عيد ميلادًا رائعًا في أحد المطاعم التي كنت أعشق دجاجه في طفولتي، لكنه كان أغرب عيد ميلاد مر علي، أتذكره جيدًا بكل تفاصيله، ظل يشغل تفكيري ليلتها، حتى التقيت صديقي وأخبرته بما جرى، فو نحن نحتفل ونغني، ظهر أمامي مخلوق غريب، عبارة عن فرخة ضخمة، عملاقة جدًا، تحمل البالون بيدها، تقترب مني، بحركة بطيئة، تهز رأسها يمينًا ويسارًا بشكل عجيب، ابتسامتها مخيفة، ظلت تقترب مني، وتقترب، ارتعبت ، مدت يدها لي، أخذت منها البالون، وكلي ذهول، ما هذه الفرخة العملاقة!؟ كيف هي بتلك الضخامة!؟ لماذا أنا وحدي من ارتعب من ضخامتها!؟ لماذا الجميع مبتهجون وسعيدون بوجودها!؟ الكل يضحك وينظر لي، لماذا هم غرباء هكذا !؟ استدارت تلك الفرخة العملاقة، وتحركت ناحية مطبخ المطعم، ركضت خلفها، هل أحلم؟ أم تلك فرخة حقيقية وعملاقة!؟ فتح لها الجرسون بابًا، ذلك الباب يُنفذ إلى ظلام، لا أرى منه شيئًا، دخلت الفرخة، ظلت تتوارى في الظلام تدريجيًا، أريد أن ألحق بالجرسون قبل أن يغلق الباب ، وأركض وألج من ذلك الباب، رغبت في أن أعرف ذلك العالم الذي فراخه بتلك الضخامة، لكن للأسف، فأبي جذبني من يدي، وعاد بي إلى الطاولة.

الأربعاء، 6 ديسمبر 2017

مذكرات مخبأة في درج الكوميدينو- بوب مارلي استايل (4)

(4)
بوب مارلي استايل


وقفت أشعل سيجارة في بهو المستشفى الخاص الذي كنت أعمل به مع صديقي الممرض، أحب ذلك الصديق، اغترب عن قريته، ليعمل ويتنقل بين المستشفيات ليعول منزلًا مكونًا من أب وأم وزوجة وطفلتين، كان مهمومًا باستمرار، واعتدت أن أركن معه على حائط غرفة الطوارئ، ننفث دخان السجائر مع نسمات الهواء البارد، النميمة معه كانت لها لذتها الخاصة، أخبرني ليلتها عن الرجل الذي أتى في مرة بعد منتصف الليل، تجره زوجته، لا يقوى على الحراك، حينها فحصاه هو والطبيب، ووجدا علاماته الحيوية طبيعية، ولم يجدا به أية علة، وأخبرا زوجته نكاية فيه، وتركاهما بمفردهما في الغرفة، ليسمعانها تعاتبه وتقول "هو أنت عشان معرفتش تعمل عيان!؟" ظللنا نضحك من القلب، في لحظتها هجم علينا مجموعة من الشباب، دخلوا مسرعين، حاملين أحدهم ينزف، ركضنا خلفهم، ارتمى على السرير، كان ينزف من ضهره، كشف الممرض ضهره، لنجده مطعونًا عدة مرات، عدلته لأفحص علاماته الحيوية، لأجده دون نبض، فحصت بؤرة عينه، لم تستجب للضوء، حاولنا أن ننعشه، ولحظتها أدركت في نفسي أننا في خطر، الشاب متوفي، وأصدقاؤه هؤلاء من ملامحهم لن يتركونا أحياء، اقترب مني الممرض، وهمس في أذني، أن أحد أصدقائه هؤلاء هو من طعنه، هنا أدركت أنها النهاية لا مفر، لم استطع إخبارهم أنه متوفي، كل الذي كان يشغل بالي حينها أن يؤخذوا مصيبتهم تلك بعيدًا عني، أخبرتهم أنه مازال حيًا ولكنه في حالة خطرة، وأن إمكانيات المستشفى لا تسمح، ويجب أن ينقلوه إلى المستشفى العام في أسرع وقت، بالطبع لم يتقبلوا ذلك بسلاسة، فالمستشفى العام يعني نقطة شرطة يعني سين وجيم، أصريت في أن هناك الأمل الوحيد لإنقاذه، وأن ما يفعلونه مضيعة للوقت، وبذلك سنفقده، وبعد مناوشات كثيرة من ناحيتي وأخرى من صديقي الممرض، حملوه، وخرجوا. هنا أخرجت من فمي زفيرًا مطولًا، بعد موقفًا طويلًا ومنهكًا كذلك، يكون أقصى أمانيك أن تجد ركنًا هادئًا تزيح فيه إرهاقك، وتسكن فيه إلى روحك، تشعل سيجارة وتنفث دخانها مخرجًا معها كل المراجعات التي تدور في ذهنك عما فعلته وما اقترفته، إن كان صحيحًا أم خطئًا، لكن في النهاية تستكين لأنك نجوت بمن معك من طعنة أحد المخمورين هؤلاء. هاتفتني في تلك الليلة، ظللنا نتحادث ونضحك، أحب ضحكتها، وخاصة عندما تعلق ضاحكة على كلامي وتقول متعجبة: " يا سلام!" كنت اتعمد أن أنكشها، كي تعيدها على مسامعي، لم استطع نسيانها مطلقًا، في تلك الليلة أرسلتلي صورتها لتريني (بوب مارلي استايل) فقد صففت شعرها على هيئة شعر بوب مارلي، ولكنه وبعد عودتها من خروجتها، كان قد اختفى ذلك البوب مارلي استايل، وظلت تحاول إقناعي بأنه بوب مارلي استايل، وأنا أصر أنه لم يعد هناك بوب مارلي استايل، لتضحك وتقول متعجبة: "يا سلام!" اتذكر ذلك اليوم كأنه أمس، افتقدها من كل قلبي، افتقد تلك اليا سلام!

الثلاثاء، 5 سبتمبر 2017

مذكرات مخبأة في درج الكوميدينو- شارع الجعيص (3)



(3)
شارع الجعيص

كان من عادتي أن أمشي بعد منتصف الليل أجول في الشوارع، وأسرح مع أفكاري، وفي هذه الليلة أخذتني قدماي إلى الجعيص، وغوصت في حواريها، حتى ظننت أنني تهت، صعب علي الخروج، أريد العودة إلى المنزل، ولكنني تهت حقًا، حتى استوقفني شابان، من مظهرهما وأفعالهما هما حتمًا بلطجية وتحت آثار مخدر ما، استوقفاني، فبالنسبة لهما أنا غريب عن المنطقة، أرادا الاستيلاء على نقودي وهاتفي والساعة، رفع أحدهما علي مطوة، وأخرج الآخر سنجة، اعترف أنني ارتعشت رعبًا، لوهلة وقف بي الزمن، ودار شريط صورة في مخيلتي لما سيحدث، هل سيقتولنني، ويرمون بجثتي عند قارعة الطريق؟ أم سيأخذان النقود، ويتركونني في سلام؟ أأردعهم وأدافع عن نفسي، طالما أنني في كلا الحالات سأموت فلأمت وأنا أدافع عن كرامتي، ولكن لو مت! ماذا عن أمي!؟ هي أول من جاء على خاطري لحظتها، جاءتني تجلس بالأسود تبكي في ركن غرفتها، دموعها لا تجف، تذكرت كم اللحظات التي سأفتقدها عند موتي، تذكرت من قست قلوبهم علي، ورأيتهم يبكونني، لماذا يبكون!؟ لماذا تبكي قلوبهم حرقة، وهي التي كانت قاسية كالحجارة في وقت ما. تذكرتها، رأيت عيناها الواسعتان مبتسمة وتنظر إلي، أريد تقبيلها واحتضانها مودعًا قبل أن أموت. تداركت كل ذلك عندما سمعت أصوات الصفافير في كل مكان، رأيتهما يركضان، يهربان من شيء، وصوت الصفارة ينتقل بين أركان حواري الجعيص، البيوت جميعها أطفأت أنوارها، صرت في الظلام، ثم سمعت بعدها سارينة سيارة البوكس، تقترب من ورائي، وصوت أعيرة نارية من أمامي، وبعدها من خلفي، ركضت كالمجنون، ركضت لا أدري وجهتي، ركضت دون تفكير، كانت الاشتباكات في حميتها، ولجت من بوابة عمارة، ركضت على السلم حتى السطح، كان جسمي منتفضًا، خفت أن يراني أحدًا، نظرت من سور السطح اتلصص، كان المنظر بشعًا جثثًا وأشلاء في كل مكان، إنني في وكر تجار المخدرات، أتت التعزيزات سياراتا جيب من الداخلية، رأيت الضابط يحمل الأر بي جي، ويوجهه صوبي، شاهدت سبابته وهي تضغط على الزناد، موجهًا القذيفة ناحية المبنى، قفذت دون تفكير، في مكب النفايات، واستيقظت على صوت ديك في أحد الأسطح يؤذن في الصباح.

الأربعاء، 30 أغسطس 2017

مذكرات مخبأة في درج الكوميدينو- فتاة المترو (2)

(2)
فتاة المترو

الست كانت ملاذها للسكينة، في حزنها وفي وقت فرحها، تتمدد على السرير بجسمها النحيل وتسرح مع الست، عيناها الواسعتان كانتا -دائمًا- محملتين بعبء، كانت دومًا سارحة، تفكر باستمرار، كنت أهاب قرائتهما، كنت أخشى الغرق، لم أقوى على قراءة أفكارها، لم استطع استيعاب كم التعقيدات التي بداخلها، جميعنا بتعقيدات، لكنها منفردة، مختلفة، مختلفة عن الجميع في كل شيء، كانت أقوى من كل ما مرت به، تحارب ولا تستسلم، ذات مرة قالت لي لا مكان للخايب في هذه الحياة، خلقنا لنعيش، وأنا قررت أعيش. أتذكرها دومًا في أوقات قوتها، حاولت أن استرجع لحظات ضعفها، لحظات بكائها، لحظات محاولتها للنوم الذي هجرها، فتستكين في حضني، وأقصص عليها حكاية وادغدغ شعرها، لكن لحظات قوتها هي الحاضرة دومًا، أحببتها من صميم فؤادي، لكنني فشلت في انتشال قلبها.في طريق عودتي من المستشفى إلى المنزل، استقليت المترو، من أسعد لحظات حياتي أن أجد القطار مكيفًا وأنا اتصبب عرقًا، أبحث عن المكان المناسب أمام فتحات التهوية وأقف، أأخذ حمام هواء بارد سريع ينعشني، لمحت مكانًا خاليًا على الكرسي، مسحت سريعًا بعيني هل هناك من يستحق هذا المكان عني، فلم أجد، فجلست، سندت ضهري، وأغمضت عيني وأخذت تنهيدة، أريد أن اتخلص منها، هي في تفكيري طول الوقت، إنها كذلك اللحن الذي يلصق في أذنك ولا يذهب، سعيد به وأكرره واتناغم معه، ولكنني أريد أن انتهي منه وأمضي قدمًا، فتحت عيني، رأيت ملاكًا يجلس أمامي، ليس من عادتي التحرش ولا حتى التلصص، لكن ملامحها وابتسامتها الطفولية خطفتني، عيناها العسليتان وأنفها الخانس، وشفتاها الصغيرتان، ووجنتاها الحمراوتان، خطفني كل ذلك. سرحت مع ملامحها، أقتربنا من محطة العتبة، وقامت واقتربت من الباب، تنتظر الوصول، وتثاءبت وعيناها في عيني، تثاءبت أكثر بعفوية، دون أن تدرك أثر حضورها على كل من بالعربة. تثاءبت حتى رأتني والتقت عيوننا، ابتسمت أنا بتلقائية، ضحَكت، وضحِكَت، ظللنا نضحك، وظلت عيوننا تتعرف على بعضها، فُتح باب العربة، حيّت عيناها عيناي، واختفت داخل الزحام.

الاثنين، 28 أغسطس 2017

مذكرات مخبأة في درج الكوميدينو- أشرف دولسي (1)



(1)
أشرف دولسي


في حقيقة الأمر لم أعد أكترث، مشيت خطوتين بالعدد قاصدًا المقهى، لكنني تراجعت، وقررت العودة، والصعود إلى منزلي، مشيت خطوتين بالعدد إلى الوراء، لكنني تراجعت، وقررت المضي قدمًا. مشيت دون وجهة أقصدها، هاتفت صديقًا لم يجبني. تحادثت مع صديقة، واعتذرت عن رؤيتي ليلتها. ظللت أمشي دون وجهة. أبحث عن سر نقمي، لكن لا سبب واضح. أدركت أنني افتعل ذلك الشعور باليأس، أدركت أنني أهرب من جبني في المواجهة. أدركت أنني - فقط - لم أعد أكترث. حينها قررت أن أبصق في الأرض. ومشيت على حافة الرصيف، اتراقص وأتفادى السقوط، كمهرج في سيرك، يمشي على الحبل، ويتباهى بقدرته الخارقة على الاتزان، مع كل الصعوبات التي يتعرض لها. لا يخشى سقوطه، ولا اشتياق الجمهور للحظة فشله، لأنه أدرك - أخيرًا- أنه لم يعد يكترث. بعدها لمحت كشك أشرف دولسي، وشريط الذكريات مر سريعًا، قفذت كالطفل من الرصيف، انتشيت، وأسرعت إلى ثلاجة الأيس كريم، كنت استعيد ذكريات طفولتي، حينما كنا أطفالًا نلعب بدراجاتنا ونتسابق في الميدان، كنت ألمح أشرف، كان شابًا وقتها، ممتلئ الجسم بشكل مبالغ فيه، كنت أهابه دائمًا، مازلت احتفظ بهذا الشعور حتى الآن، حتى بعد أن شاخ مازال يحتفظ بنفس المهابة في نفسي، كان يراقبنا ونحن نلعب، كنت أرى في عينه نظرة حسد، دائمًا ما كان مبتسمًا، ولكن ابتسامته كانت تحمل بعضًا من الغموض أغلب الوقت. مسّيت على عم أشرف، وحاسبته على الأيس كريم، وتحركت، لم يتذكرني بالطبع، أنا لا اتذكر الأشخاص الذين يحيونني في الشارع، فقط لأنه صادف في ليلة وعالجت أحدهم في طوارئ المستشفى، أشرف كذلك لن يتذكر كل شخص عالجه بالأيس كريم، يكفيه أن يظل متذكرًا طفولته التي لم يحياها بسبب ضيقته من جسمه. أخذت أتلذذ بحلاوة الأيس كريم في فمي، برودة ذوبانه في حلقي، كان مختلفًا هذه المرة، الأيس كريم يكون مختلفًا كل مرة، مع ذوبانه على طرف اللسان يذوب كل شيء، لم أعد أفكر، سرحت في اللاشيء، حتى وصلت الهويس، مكاني المفضل في مراهقتي، كنت دائم الجلوس هنا مع الأصدقاء، لا نفعل شيئًا سوى مراقبة غروب الشمس، ومراقبة المارة أحيانًا. كانت هنا عربة فاست فوود، أينعم كانت ساندوتشاته سيئة جدًا، ولكنها الذكرى، اختفت عربة الفاست فوود، كما اختفت الذكرى، لكن لا بأس فالآن الكورنيش كله -من أول الهويس حتى المعدية- مكتظًا بعربات كتلك القديمة، هي أكثر حداثة، وأكثر إبهارًا، لكنها أبهت، تفتقد للروح، اعتقد أن هذا شعوري الذي يخصني وحدي، لشعوري تجاهها بالغرابة، فالجماد تنبض فيه الحياة حين ارتباط الأشخاص به. هذه العربات سترتبط بذكريات طفل ما، وذات يوم سيأتي مثلي هنا، باحثًا عن ذكرياته المفقودة. مشهد المراهقين وهم يتسلقون سور نادي الجولف جعلني أضحك من القلب، ذكرني بمشهدنا قديمًا، كنا نستخسر دفع ثمن تذكرة الدخول ، لأن هناك ما يستحق الدفع له عن هؤلاء الأوباش على بوابات النادي، لكنني كنت مراهقًا خايب، لم أكن أعرف كيف أتسلق السور، ولم أكن أعرف كيف أقفذ، كنت أضحوكة أصدقائي، ذلك ذكرني برحلة وادي الوشواش من سنتين، كدت أن أغرق ونحن نتسلق جبلًا عن طريق الحبل لنمر للجهة الأخرى، كنت خايب ومازلت خايب في هذه الأمور. لملمت تلك الذكريات المتبعثرة في طريق عودتي للمنزل، لممت ذكرى نادي الجولف وتحركت، وفي طريقي طويت ذكرى عربة الفاست فود سيئة الجودة، عبرت بجوار أشرف دولسي، كان هائمًا هو أيضًا في ذكرياته، حييته لكنه لم يعيرني أي انتباه، ابتسمت وأكملت طريقي على حافة الرصيف، أحاول أن أوازن حركتي حتى لا أقع، تذكرتها في تلك اللحظة، تذكرتها وهي جالسة بجواري وأنا في حالة نعاس، تدغدغ شعري وتسمع الست.

الأحد، 4 ديسمبر 2016

أسودان يخرجان أبيض واحدًا

أنا مراد حسن طبيب نفسي ، كانت شغلتي هي إيهام المريض بأنه ليس مريضًا ، ومرضه ليس بمرضٍ ، وعقله سليم ، وما يراه ما هو إلا أوهام قلق تراوده عن نفسه ؛ وعليه أن لا يهم بها ، ويتجنبها ، ويهرب منها موليًا إلى أبواب الصفاء ، فتقد قميصه من دبر ؛ فيظهر الحق ، وتتركه باحثة عن ضعيف غيره . أظل على هذه الحال طوال نهار يومي ، أتلذذ بإيهام مريض تلو الآخر ، وأغازل أوهامهم وهواجسهم ؛ لتهجر هؤلاء الضعاف الذين لا حمل لهم على مجاراتها ؛ لتلهث راكضة على أحضان عشقي ، فتجد الغدر من نصيبها ، فتموت منتحرة . نعم شغلتي أن أمنع منتحرًا من الانتحار ؛ بأن تنتحر أوهامه ، فهذا هو حال العدالة ، إذا وقع أذى ، يجب أن يدفع ثمنه أذى مقابل ، ولا يقع هذا التعويض إلا على كاهل الجاني ؛ والجاني هنا هي الأوهام . ولما كان العقاب من جنس العمل ؛ فكان حري بي أن أعاقبها بأن أجعلها تنتحر . حتى أنا فأأذي ذلك المريض الضعيف ؛ أعطيه جرعة من الوهم ؛ لأنتشله من عشق أوهامه - التي جاءني ليتخلص منها - ، فأخلصه منها بجرعة أوهام أخرى ، يجد معها السعادة المنشودة ، وتوقد رغبته في الحياة من جديد . لا تمر أيام حتى أجده يعود لي شاكيًا منها ، طالبًا التخلص منها ، فأعطيه جرعة مختلفة من الأوهام ، وهكذا تدور الدائرة دون انقطاع . ولكن لأن الخلاص بيدي وحدي ، ولأنه لن يجد العشق المنشود إلا عندي أنا وحدي ؛ فأذاي هو رحمة توجب المغفرة ، وسيئة توجب الإحسان والشكر .
حتى جاء ذلك اليوم ، أتاني ذلك المريض الذي تأبى أوهامه عن هجره ، مستعصية لا تنفك عن تنغيصه ، جعلته يرى الصواب خطأً والجمال قبحًا والخير شرًا والعكس. أتاني يستنجد بي فقد قتل رجلًا صالحًا ، قد اعترضه عندما رأه يذبح قطًا أسود اللون - شيطان على حد وصفه- ، فبدلًا من ذبحه -الشيطان- ذبح ذلك الرجل الذي وقف أمامه يحمي ذلك القط المسكين، ذبحه بدمٍ باردٍ واقتلع عينه من محجرها ، واحتفظ بها في بطرمان ، أتاني بها ، فاجأني ، إنه يحمل عين إنسان بجذورها العصبية مقتلعة - إقتلاعًا- كنبتة اقتلعت بجذورها من تربتها الخصبة . قال لي -حائرًا- : هاهي العين ، ماذا أفعل بها يا دكتور ؟! لم أرد ، ظللت مذهول - لبرهة- استجمع خلايا عقلي المتناثرة تناثر شظايا لغم انفجر لتوه. فقد باغتني بذلك البطرمان ، أمامي قاتل يحمل عين مقتوله يقف بين يدي ، تذكرت أول جلسة له معي ، فأنا من زرعت فيه هذه الأوهام ؛ لأجنبه أوهامه السابقة ، أنا من صنعته ، فكيف اعتبره قاتلًا ! كيف أحاسبه !؟ تذكرت علبة السجائر وعلبة السكاكر ، لعبتي القديمة مع مرضاي ، أعرض عليه الإثنين ، وأنبه عليه أن التدخين محرمًا هنا ، لكنه حر الاختيار ، وبالطبع - وبديهيًا- سيأخذ الإثنين ، سيأكل السكاكر ، وبعد بضع ساعات سينسى تحذيري - أو يتناسى - ويشعل سيجارته ، فأطرده. رفض الخروج هذه المرة ، أبى أن يخرج حتى أدله ما العمل بتلك العين ، حينها فقط أخذت أطول تنهيدة في عمر البشرية جمعاء ، وقلت له - وأنا أفخم صوتي- : قف ، أترى ذلك الخط المستقيم المرسوم على الأرض أمام الباب ، قف في أوله ، وأخرج العين من البطرمان ، وأمسكها بيدك أعلى رأسك ، وأغمض عينك ، واتبع روحك وامشي إلى الأمام دون توقف لا تنحرف عن صراطك ، وردد : لا أرى لا أسمع لا أتكلم ، لا أرى لا أفهم لا اتكلم ، لا أرى لا أفكر لا اتكلم ، لا أرى لا أؤمن لا أتكلم. حتى وصل للنهاية ، وأمام النافذة ، دفعته منها ، فسقط ميتًا. ذاع بعدها أن مجنونًا قد مات منتحرًا من عيادة طبيبه النفسي، ولم استطع صبرًا على أوهامه التي تركها لي ، لذلك جئتكم اليوم الجلسة.

السبت، 9 أبريل 2016

اشتهاء الألوان



اغمض عينيك
اغلقها جيدًا.
سترى انعدام الألوان للحظة،
بعدها سيضوي الأزرق ويختفي
ليظهر الأخضر ويختفي
ويليهما الأصفر فالأحمر وهكذا،
ستضيء جميع الألوان لتنطفىء.
برهة ..
لحظة سكون تسبح خلالها في أعماق الأسود،
يضيء الأبيض زاهيًا
فأظهر من خلاله
بعيناي الواسعتان برموشهما وشعري البني الداكن وشفتاي المثقلتان بعبق رحيقك.
تشتهيني أعلم،
لذلك آتيك في لحظات سكونك
امسح بأناملي شعرك الأكرت
اتحسس آخر خصلة خلف رأسك
ألمس رقبتك فأصل لأذنك
حمراء هي أذناك
فقد توهجت وجنتيك
تشتهيني أعلم
تشتهي شفتاي
تشتهي عسلي
هذا عشقٌ بيننا،
لا تفلته
ضمني واعتصرني
فيمتزج رحيقك بعسلي







مذكرات مخبأة في درج الكوميدينو- أشرف دولسي (1)

(1) أشرف دولسي في حقيقة الأمر لم أعد أكترث، مشيت خطوتين بالعدد قاصدًا المقهى، لكنني تراجعت، وقررت العودة، والصعود إلى منزلي، مشيت خط...