الثلاثاء، 1 يناير 2019

سيدة الكرب - قصة قصيرة



Distress by: Rashi Chaturvedi


أمي وكأي امرأة عاملة عربية، كان يستعصي عليها أن تأخذ أطفالها معها إلى محل عملها، كانت مديرة الروضة تضيق الخناق على المدرسات؛ حتى يتسنى لهن التركيز في تأدية مهام وظيفتهن على أكمل وجه. مما دفع أمي للبحث عن خادمة، تكون يدًا معاونة لها في شغل المنزل، وفي نفس الوقت تكون عينًا على أطفالها في غيابها، نبيهة هي أمي، فكما نقول؛ ضربت عصفوريْن بحجر واحد. كانت أمي تعود يوميًا -ظهرًا- لتطبخ وتكنس وتغير الحفاظات، وترضِّع، فتنام الساعة التاسعة مساء، لتستيقظ السادسة فجرًا، تفطرنا وتفطر هي إذا لحقت، لتركض خلف باص الروضة، لكنه كان باستمرار يفوتها، وتضطر الذهاب مترجلة.

مريم، أو هكذا سموها في مكتب تشغيل العمالة، فليس من المعتاد أن تُنده الشغالة باسمها الحقيقي، ولكن تُسمى باسمًا مستعارًا، اسم يكون عربيًا، يَسهَل على العميل نطقه، ويستلطفه، كانت نحيفة، قمحية البشرة، ذات شعرًا أسودًا ناعمًا وكثيف، صغيرة الملامح، اعتقد -إذا لم تخني ذاكرتي البصرية- فعمرها لم يتجاوز الثامنة عشر آنذاك، عيناها الواسعتان كانتا دائمًا تلمعان بدموع مكبوتة، وجهها طفولي حزين، خائف، ترتبك دائمًا، كمن يجرب مسئولية ليس معتادًا عليها، وليست تناسبه، وقتها لم أكن قد بلغت سنتي السادسة في هذه الحياة، استغربت أمي، أين ستخصص لها مكانًا يأويها في ذلك البيت الصغير؛ والذي هو عبارة عن غرفتان وممرًا صغيرًا يصل بينهما، غرفة لها هي وأبي، والغرفة الأخرى كانت لي وأخوتي، وهي غرفة المعيشة أيضًا، أمي أتت لها بمرتبة إسفنجية، وأفرغت لها إحدى درفات الخزانة، وصنع أبي لها قفلًا، وضعت فيها أغراضها الخاصة، وأغلقت عليهم بذلك الترباس الهش، كانت –ليلًا- تفرش المرتبة الإسفنجية على أرضية غرفتنا، ثم –نهارًا- تحملها وتواريها خلف الخزانة. لم نفهمها ولم تفهمنا، لم تكن تجيد لا عربية ولا إنجليزية، وكان التعامل معها بالإشارة مع بعض الكلمات الأساسية بالعربية التي تلتقطها من أمي، اعتقد أن أمي كانت على عجالة من أمرها عند جلبها مريم، ومن الأرجح أن سبب اختيارها لها؛ هو أن راتبها كان الأوفر.

كل صباح كانت مريم تجلس منزوية، تحتضن جهاز كاسيت بين أناملها الطفولية، تجلس تسمع شرائطًا لأقاربها، من تفاوت الأصوات ميزت أنهم أبوها وأمها وأخت، تجلس تنصت لحديثهم، وتبكي ببكاء أجش، كنت أقف خلف الباب أراقبها، متوجسًا من تلك الغريبة التي دخلت بيتنا، وتأكل من أكلنا، وتجلس معنا دون وجود أبي أو أمي، خفت منها، توقعت منها فعلًا إجراميًا، تقتل أحد أخوتي أو تؤذيني، أو -على أقل تقدير- تسرق شيئًا من البيت، في أعماق ذاكرتي هناك شيء يخاطبني بأن أبي هو من زرع في ذلك الهاجس عنها، لكي أكون مخبره الصغير الذي ينقل له ما يدور في غيابه.

أبي قد زرع في نبتة ظلت تلاحقني حتى كبري، كنت مخبره الصغير حتى عن أطفاله، وفي بعض الأحيان زوجته كذلك، حتى وجدت نفسي محاصرًا ومقيدًا بين رغبتي في أن أكون المخلص الوفي وبين لهفتي الطفولية في ارتكاب الأخطاء مثلهم، فكان جزائي العقاب والوقوف رافعًا يداي تحت عداد الكهرباء في ذلك الممر الضيق الصغير، وأصبحت من المنبوذين، اعتقد بعدها أنه جنّد عميلًا آخر بكل سهولة، فما أكثر أطفاله!

في صباح أحد الأيام، ومريم تجلس كعادتها في أحد أركان الغرفة، تسمع أحد شرائطها، لمحتني أراقبها، فارتعبت وأغلقت الكاسيت، وحملته، تخبأه في خزانتها، اقتربت منها، تحاشت النظر لي، فضولي دفعني إلى محاولة معرفة اسمها، حاولت الإشارة لها متسائلًا، أجابتني: "مريم" عاودت الإشارة مع استخدام كلمات بالعربية، رغبة مني في معرفة الحقيقي، وليس ذلك الذي لقبوك به، لكنها لم تفهم أبدًا، وظلت تردد: "مريم.. مريم.. مريم" وعيناها المنكسرتان تنظران للسماء من النافذة. أتت أمي في الظهيرة، ووجهها عابس، ومع عبورها عتبة المنزل، وهي تصرخ وتصيح في مريم، ممسكة فاتورة الهاتف، تحاول الشرح لها بالإشارة وبالعربية، أنها ممنوعًا عليها استخدام الهاتف، ممنوعًا عليها المكالمات الدولية، ولا حتى المحلية، انكمشت الفتاة الصغيرة في مكانها، تراجعت للخلف خوفًا، جعلت من الحائط ظهرًا لها، كبتت دموعها، في محاولة لإظهار التماسك، لكن أمي اغتاظت أكثر، ورفعت كفها، وصفعتها على خدها، ذُهلت، هذه أول مرة أرى فيها أمي تضرب أحدًا، ليس من عادتها أن تفعل شيئًا من (شيم) أبي، بالطبع اعتادت على الأمر بعدها، وأصبحت تضربنا وتصفعنا بيدها الصغيرة، لكن هذه! تلك كانت الأعنف، أخرجت أمي في تلك الصفعة كل مخزونها من الغضب، وكأنه مخزون دهرها. انسحبت مريم في هدوء تنوح، دخلت الحمام، ومكثت فيه وقتًا طويلًا، تبكي، حتى ظننت أنها لن تخرج أبدًا.

مشاعري تجاه مريم تغيرت بعد ذلك الموقف، لم أخف منها من بعدها، لم أستطع أن أراها مجرمًا، تلك الفكرة الساذجة التي زُرعت بداخلي عنها، قاومتها، بالعكس شعرت أنها فردٌ منّا، هي أيضًا تُضْرَب مثلنا، تبكي مثلنا، تركض لتختبئ في المكان الوحيد -في ذلك البيت الضئيل- الذي تشعر فيه بخصوصيتك، تنظر في مرآته، ترثى حالك وأنت تبكي، حتى تجف الدموع.

مرت الأيام على نفس الحال، تنزوي مريم صباحًا، تعيد الاستماع إلى الشرائط القديمة، تسمع الجديد الذي يصلها، أخوتي يلهون، وأنا أراقب، لكنني كففت مراقبة المخبر، أصبحت أتمنى لو أفهمها وتفهمني، ويدور بيننا حوار أعرفها منه أكثر، لكنه لم يحدث.

في إحدى الليالي والكل نيام، استيقظت على صوت نحيبها، وهي تحتضن جهاز الكاسيت، استغربتها، هذه أول مرة أراها تستمع لشرائط الكاسيت ليلًا، اعتدتها تأخذ من أبي بريدها، تضعه في خزانتها، دون فتحه، وتفتحه نهارًا، في غيابهما. كنت نعسًا للغاية لأتكشف الأمر، لكن صوت نحيبها المكتوم، ظل في أذني حتى الصباح.

في الصباح، مكثت مريم تروح وتجيء بجوار الهاتف، في تردد بيّن وخوف، لكن وكأن نداءً داخلها أخبرها أن تفعلها، التقطت الهاتف، ونقرت على أزرار أرقامه، وظلت تحادث من تحادثه، ووجهها فزعًا، تتمالك بكاءها، قابضةً على سماعة الهاتف، وكأنها تريد أن تمتزج مع الذبذبات، وتنفذ عبر الأسلاك، فتَعبُر من خلالها لتصل إلى من تحادثه، شعرت بأن هناك مكروهًا قد حدث عند أهلها في بلدها، وقفت هرعًا، لمحتني بطرف عينيها، لكنها لم تعرني انتباهها، وأكملت الإنصات، والرد المقتضب، حتى انهارت في البكاء، وسقطت منها سماعة الهاتف، كمشهد تراجيدي من الأفلام الكلاسيكية، وظلت تنزل إلى الأرض وظهرها يحتضن الحائط، تبكي وتصيح، دون هوادة، ظلت على تلك الحالة، حتى انتشرت العدوى، فأختي الصغرى بكت لبكائها، ومن بعدها أخي، وأنا وقفت في المنتصف، أدور حولي، لم أستوعب ما العمل، ماذا أفعل، الكل يبكي من حولي، سماعة الهاتف ملقاة على الأرض، بجوارها تمكث مريم، تصيح كبركان يخرج حممه التي ظلت مدفونة لدهور، وكأنها أخذتها حجة لتخرج كل ما دفنته بداخلها.

استيقظت في اليوم التالي، هرعًا ابحث عن مريم، لم أجدها، اختفت تمامًا، وجدت خزانتها مفتوحة، فارغة، أمي كانت تحضر أخوتي، وصاحت في، لأسرع وأغتسل، لترمينا عند الخالة ريتا جارتنا. وأنا أنهض من السرير في عجالة، خوفًا من البطش، لمحت كارتًا مكتوبًا بلغة لا أفهمها، نسته مريم في خزانتها، أو تركته لي قصدًا! خطفته سريعًا، وخبأته تحت وسادتي، لأعود له في المساء، وأقص على صديقي التخيلي النقطة -الذي يقطن سقف الغرفة- كم افتقد مريم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مذكرات مخبأة في درج الكوميدينو- أشرف دولسي (1)

(1) أشرف دولسي في حقيقة الأمر لم أعد أكترث، مشيت خطوتين بالعدد قاصدًا المقهى، لكنني تراجعت، وقررت العودة، والصعود إلى منزلي، مشيت خط...