السبت، 9 نوفمبر 2013

سيزيف والدوائر المجتمعية


ما جدوى الحياة ؟ أو ما جدوى الوجود ؟ سؤال فلسفي لا يخلو من سفسطة ، فنجد في الفلسفة الإنسانية أن جدوى الوجود هو الإنسانية ، يقول (شيلر) : "الإنسان مقياس الأشياء جميعًا"، فالحياة - هي - لكي يعيشها الإنسان، يستمتع بإمكانيات الحياة قدر ما يتسطيع ، التركيز - كل التركيز - على اهتمامات الإنسان؛ ليس هناك أي سبيل للتضحية بأي مقدار من الإنسانية في سبيل ثواب الآخرة. أما من نظر الفلسفة الوجودية، فالحياة البشرية بلا غاية أو معنى؛ فكل الكائنات البشرية لا ضرورة لها ولا حكمة من وجودها . وأن الفرد وحده هو مقياس الأشياء جميعًا - لا الإنسانية -، فالحياة عملية متصلة من اتخاذ القرارات الفردية ، فكل قرار - في النهاية - هو أمر فردي شخصي . فالوجودي ينكر التدبير الشامل الألهي ، ويعتقد بالتخطيط الذاتي الفردي ، فكل فرد له أهدافه وغاياته الذاتية في الحياة ، وهو وحده له مطلق الحرية في رسم دربه الذي سيسلكه في الحياة . أما من نظر الدين فنجد أن جدوى الحياة هي إعمار الأرض تطبيقًا لمُثل عليا ومبادئ اجتماعية عظمى ، أنزلها لنا الله لكي نعمر بها الأرض ، فنجني الحسنات ، لنال خير جزاء في الآخرة .

وهذا يقودنا إلى التكوينات البشرية والتشكيلات الإنسانية ، يقودنا إلى المجتمع . فهل نحن من نُشكل مجتمعنا أم المجتمع هو الذي يُكون شخصياتنا ؟ المجتمع -تعريفه المُبسط- هو شبكة العلاقات الاجتماعية بين مجموعة من البشر من أجل تحقيق مصالحهم الفردية ومصالح المجموعة ككل ، ومع تتطور المجتمع وتتطور احتياجات أفراده تتعقد شبكة العلاقات الاجتماعية ، فتَخلق دوائر مجتمعية يتم توزيع أفراد المجتمع فيها ، كل دائرة تُلبي احتياج معين من احتياجات المجموعة ، مما يُلبي الخدمة المجتمعية العامة للجميع. فنصل بذلك إلى ذروة تعقيد المجتمع التي تُحوِّل التكوين البشري للمجموعة من كونها مُنشِئ للمجتمع ، إلى كونها نِتَاج عمليات فرز المجتمع للأفراد في دوائره المجتمعية . وبهذا يدور كل فرد من أفراد القطيع المجتمعي في دائرة مغلقة يحرث ، فيخدم القطيع ، فيعمر الأرض .

إذاً هناك دوائر مجتمعية ، دوائر حرث - لتعمير الأرض- يُفرَز فيها أفراد المجتمع ، ولكن ماذا إذا تصادم ذلك مع متطلبات الفرد - ذاته - مع احتياجاته ورغباته ، فالمجتمع يفرض على الفرد دائرة تخدم متطلباته -هو المجتمع-، ويجبره على شكل معين، شخصية تناسبه ، ولا يفترض أنها تناسب الفرد - ذاته -، فقط يجب أن تناسب وتتواءم واحتياجات المجتمع ، ذلك المجتمع الذي شَكَّلَته في الأصل احتياجات أفراده ، يصل لذروته فيفرض عليهم احتياجاته ، يقولون أنه بإمكان الفرد أن يُرغم مجتمعه باحتياجاته ، ولكنه إذا نجح في ذلك ، ألن يُجبر ذلك الاختيار فرد أخر - في القطيع - بالدائرة التى رفضها ؟! فالمجتمع لن يجد أي صعوبة في أن يجد بديلاً عنك ليحرث تلك الدائرة التى رفضتها ، ألن تجد أنت - أيها الفرد الثائر على اختيار المجتمع - من ينافسك على اختيارك الجديد ، ما رأيك في الفرد الذي رشحه المجتمع لتلك الدائرة التي ترغب فيها.

سيأتي عليك اليوم الذي تجد فيه نفسك تقف حائرًا بين أن تخضع لاختيار المجتمع ، أو أن تجازف وتنافس على اختيارك المفضل ، الذي يهيأ لك أن به السعادة المنشودة، ولكن يجب أن تعلم جيدًا أن هذا اليوم سيكون فرصتك الأخيرة لتكون حر الاختيار ، ومن بعده ستسلبك الدائرة التى اخترتها كامل حريتك ، كامل سعادتك ، كامل مشاعرك ، سواء كنت مجبرًا عليها أم بكامل رضاك ، لأنك تحرث الأرض لتعمرها ، بلا توقف ، تدور وتدور في دائرة مغلقة تجر من خلفك المحراث ، لا تكترث لشيء غير أن تدور ، فقط تبحث عن أي سعادة في دورانك ، تظل تدور في دائرة غير منتهية إلا بموتك ، ليجد المجتمع بديلًا عنك يدور في تلك الدائرة لتكمل دورانها إلى ما لانهاية ، لو سألت الأرض نفسها ستجيبك : نعم يابني، كلنا ندور في دوائر إلى النهاية، لو تجرأت واقتربت من الشمس لتهمس في أذنها بتساؤلاتك؛ لأجابتك - بصوتها الجهوري - : نعم، نحن كـ" الثور في الساقية ". يقولون أن بيد الفرد أن يكمل دورانه أو أن يتوقف، أتدري ماهي عوامل ذلك، إما الأمل أو الانتحار؛ فـ(ألبير كامو) يقول أن بالأمل يظل الفرد يكمل دورانه ، وبالانتحار يقف الحرث بشكل فجائي وينتهي كل شيء ، بالانتحار تباغت المجتمع ، بتوقف إحدى دوائره، فيفقد جزء من اتساقه الاجتماعي إلى أن يجد البديل ، فيستكمل الدائرة وتعود الحياة من جديد.

دعني أحدثك بشكل أبسط من تلك البساطة ، لنفترض أن هناك شجرة برتقال ، فإنها تنتظر أن تمطر أو أن يعطف عليها أحدهم فيغدق عليها بقوت يومها، لكي ترزق بثمار برتقالية اللون زاهية تجذب أعين الناظرين، فيتحرشوا بها، ليلقفوا إحدى تلك الثمرات، وفي أوقات الجدب والفقر؛ عندما لا يوجد أحدهم ليعطف عليها بقوت يومها، تجدها تلد ثمارًا باهتة اللون، لا تجذب الأنظار، لن تجد من يتحرش بها ، فتقوم بالتبرأ من ثمارها - فلذة أكبادها - وتطرحهم أرضاً ، فتجد أن هناك - أيضاً - من يتصارع على التقاطهم، آخرين غير هؤلاء الذين تطلعوا لأعالي الشجرة في زهوها، هؤلاء الذين ليس بمقدورهم النظر لأعلى ، انتظروا إجهاضها لكي ينالوا من ثمارها.

إنها تعقدت أكثر، أعرف ، ولكن كيف تبسط، وهي في الأصل معقده. دعك من هذا كله فهذه سفسطة لا تسمن ولا تغني من جوع ، إنه الواقع الذي يرغمنا - أجمعين - على السير إلى الأمام دون توقف لبرهة ، دون التوقف لتنفث سيجارتك الأخيرة ، وإذا فكرت في الوقوف لتفكر في مصيرك؛ لماذا تسيير إلى الأمام في هذا الطريق ؟ لن تجد أمامك إلا إثنين لا ثالث لهما ، إما أن تجد الأمل في استكمال مسيرتك تلك ، أو أن تنهي اللعبة وتظهر لك الـ"game over" إلى الأبد ، وتذكر فلعبة الواقع ليس بها ثلاث فرص كما هو في بقية لعب الفيديو، هي فرصة واحدة، وهو طريق واحد إما تكمل فيه، أو تخسر للأبد .


"واضعًا يدي في جيبي المثقوبين
سائرًا في الشارع
رأيتهم يتطلعون خلسة إلي
من وراء زجاج واجهات المخازن والمقاهي
ثم يخرجون مسرعين ويتعقبونني
تعمدت أن أقف لأشعل سيجارة
والتفت إلى الوراء كمن يتجنب الريح بظهره
ملقيًا نظرة خاطفة إلى الموكب الصامت:
لصوص و ملوك و قتلة , أنبياء وشعراء
كانوا يقفزون من كل مكان
ويسيرون ورائي
منتظرين إشارة مني.
هززت رأسي مستغربًا
ومضيت وأنا أصفر بفمي لحن أغنية شائعة
متظاهرًا بأنني أمثل دورًا في فيلم
وبأن كل ما ينبغي علي أن أفعله هو أن أسير دائمًا إلى الأمام
حتى النهاية المريرة "
 _فاضل العزاوي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مذكرات مخبأة في درج الكوميدينو- أشرف دولسي (1)

(1) أشرف دولسي في حقيقة الأمر لم أعد أكترث، مشيت خطوتين بالعدد قاصدًا المقهى، لكنني تراجعت، وقررت العودة، والصعود إلى منزلي، مشيت خط...