الأربعاء، 16 سبتمبر 2015

بائع البيض (2)

(2)

ذات يوم أخبرته حبيبته أنها حلمت أنهما كانا يرتجلان كمسافران تائهان في وسط صحراء لا حدود لها رمالها ناصعة الصفار نقية بها تموجات حنونة تجذبك لأن ترتمي بجسدك بين أحضانها وتسحب نفسًا عميقًا لنومٍ عميقٍ ، شمسها شديدة الإشعاع حارقة تدغدغ جلدك بقسوة تولد ألمًا بنشوة . ظلّا يرتجلان يبحثان عن الماء ، إنهما عطاشى حبٍ عطاشى أمانٍ ، وأينما وُجِد الحب يولَدُ الأمان . ظلا يعبران كثبان الرمال مؤمنان أنهما حتمًا سيجدان واحة حبهما بنخيلها العالي الشامخ غارسًا أوتاده في قلب الصحراء؛ متمسكًا بالحياة لن يتركها مهما قست عليه مهما منعت عنه ماء أو تربة حنونة على جذوره ؛ فهو يظل متمسكًا بالحياة ويغدو أشمخ وأعلى، إنها الواحة التي ستروي حبهما بمياه اللذة ليندمجان بجسديهما ويعتصران أنفاس بعضهما يطفئان لهيب قلوبهما تحت ظلال نخيل الحياة الباقي لأبد الآبدين لعله يمد الواحة بأملٍ في الحياة بأملٍ في البقاء بأملٍ في العطاء تمنح مياهها العذبة لكل سائلٍ ناسكٍ للحب والأمان. ينتبه لصوت صفير فرامل الحافلة فقد أصبح صفيرها لأذنه كجرس منبه ينبهه أنه حان وقت العودة للواقع، فلتضع أحلامك في صندوقك الأصفر، وأغلق عليهم بإحكام؛ كي لا يهربوا، فتتمكن من العودة إليهم. يهم في الوقوف استعدادًا للنزول حينما تتوقف الحافلة، تقف فينزل، يضع صندوق البيض الأصفر على حافة الرصيف ، يبدأ في البحث بعينيه سريعًا عن المكان المناسب من الكورنيش؛ ليفرش فرشته، ويعرض بيضاته الملونة على المارة؛ لعل ألوانها تجذبهم، فيشتروها منه، فيبيعها بالواحدة، فيكسب فيها أكثر من أن يبيعها جملةً لتجار البيض في السوق. ها هو المكان المناسب، أمام تلك الشجرة، ضخمة الجذع، عتيقة الأغصان، القابعة في تلك الزاوية من الكورنيش، خلفها ترى في الأفق الباخرات والسفن عابرة بهدوء القناة، تتدافع ببطء خلف بعضها، تطلق كل حينٍ وآخر زفيرًا معلنةً وجودها في تلك الحياة، تصطف فوقها في السماء سحبٌ نقية البياض، بياضها يشع بهجة وسعادة، والشمس تعافر في إثبات وجودها وأنها باقية للأزل، ولكن بلى جدوى، فهي تغيب، وإشعاعها يندثر. يحمل الصندوق الأصفر، ينطلق إلى وجهته، يضع الصندوق بجوار جذع الشجرة، يخرج الملاءة التي كان يغطي بها البيض في الصندوق، يفترشها، ويجلس، يهم في إخراج أرفف البيض، يعرضها أمامه، يأخذ تنهيده ، يهدأ قليلًا ، يسند ظهره على جذع الشجرة. يخرج من جيبه كيس التبغ الأخضر المصفر، كلما أخرجه، ينظر لأصبعيه السبابة والأوسط ليده اليمنى، ويتأمل البقعة الصفراء التي تتوسع ملتهمة العقلة الأولى من الأصبعين، يتأمل كثيرًا، يسرح، متذكرًا أول ليلة له دخن فيها من عشر سنوات؛ ليلة إعلان أن لا مفر له إلا الهروب. يتدارك تذكر ذلك، يخرج ورقة البفرة، يكبش بأطراف أصابعه بعض التبغ، أصبحت أصابعه كالميزان، يخرج الكمية المناسبة بالضبط، يلف السيجارة، يشعلها، يسحب شهيقًا عميقًا منها، يرفع رأسه لأعلى، ينظر لأغصان الشجرة و أشعة شمس المغيب الواهنة تتحرش بها، يغلق عيناه، يخرج دخان السيجارة كمن يزيح همًا مثقلًا،  يتذكر حبيبته، يبتسم، كلما تذكرها؛ تلقائيًا يبتهج جسمه -وكل أعضائه- ، رآها في حلمها الذي قصّته عليه، رآها تركض ماسكة يديه ، تشده خلفها، وكل حينٍ وآخر، تنظر له وتبتسم، ضحكاتها عالية، صداها يسطع في كل أنحاء الصحراء، تركض، وهو يركض خلفها، يشتهيها، وهي تشتهيه. ظلا يركضان كثيرًا، حتى كادا أن يفقدا الأمل في العثور على واحة الحياة، بل فعلًا فقدا الأمل، ضحكاتها توقفت، وقلبه أيضًا توقف، جلسا تَعِبَان وعَطْشَى، لكنها عنيدة أبية ، أبت أن تستسلم، وقفت، جذبته للوقوف، اغمضت عيناه، وأغمضت عيناها، شدته إليها، حضنته بشدة؛ كأنها لا تريد أن تضيعه، قبلته، وقبلته، واستمرت تقبله، وتعتصر شفتاه، اهتزت الأرض من تحتهما، قلبه عاد ينبض، ينبض بسرعة، إنه خائف، يحاول التملص منها، لكنها أصبحت أقوى وأشد، ضمته لها أكثر، اعتصرت شفتاه بشفاهها أكثر، اغمضت عيناها أكثر، إنها تخلق واحة حبهما، نبت النخل بسرعة، انفجرت العين أسرع، افترشت المياه الأرض، خفتت أشعة الشمس قليلًا، ظهرت الطيور والعصافير من العدم، تطير وتزقزق، وهو ينظر لكل ذلك بخلسة، متعجبًا، فتحت عيناها، توقفت عن تقبيله، تلمح بعيناها واحة حبها، ما خلقته بحبها، تبتهج، تعلو ضحكاتها، تعود للركض، تركض نحو المياه، تخلع كل ملابسها، وتقفز في المياه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مذكرات مخبأة في درج الكوميدينو- أشرف دولسي (1)

(1) أشرف دولسي في حقيقة الأمر لم أعد أكترث، مشيت خطوتين بالعدد قاصدًا المقهى، لكنني تراجعت، وقررت العودة، والصعود إلى منزلي، مشيت خط...