الأحد، 4 ديسمبر 2016

أسودان يخرجان أبيض واحدًا

أنا مراد حسن طبيب نفسي ، كانت شغلتي هي إيهام المريض بأنه ليس مريضًا ، ومرضه ليس بمرضٍ ، وعقله سليم ، وما يراه ما هو إلا أوهام قلق تراوده عن نفسه ؛ وعليه أن لا يهم بها ، ويتجنبها ، ويهرب منها موليًا إلى أبواب الصفاء ، فتقد قميصه من دبر ؛ فيظهر الحق ، وتتركه باحثة عن ضعيف غيره . أظل على هذه الحال طوال نهار يومي ، أتلذذ بإيهام مريض تلو الآخر ، وأغازل أوهامهم وهواجسهم ؛ لتهجر هؤلاء الضعاف الذين لا حمل لهم على مجاراتها ؛ لتلهث راكضة على أحضان عشقي ، فتجد الغدر من نصيبها ، فتموت منتحرة . نعم شغلتي أن أمنع منتحرًا من الانتحار ؛ بأن تنتحر أوهامه ، فهذا هو حال العدالة ، إذا وقع أذى ، يجب أن يدفع ثمنه أذى مقابل ، ولا يقع هذا التعويض إلا على كاهل الجاني ؛ والجاني هنا هي الأوهام . ولما كان العقاب من جنس العمل ؛ فكان حري بي أن أعاقبها بأن أجعلها تنتحر . حتى أنا فأأذي ذلك المريض الضعيف ؛ أعطيه جرعة من الوهم ؛ لأنتشله من عشق أوهامه - التي جاءني ليتخلص منها - ، فأخلصه منها بجرعة أوهام أخرى ، يجد معها السعادة المنشودة ، وتوقد رغبته في الحياة من جديد . لا تمر أيام حتى أجده يعود لي شاكيًا منها ، طالبًا التخلص منها ، فأعطيه جرعة مختلفة من الأوهام ، وهكذا تدور الدائرة دون انقطاع . ولكن لأن الخلاص بيدي وحدي ، ولأنه لن يجد العشق المنشود إلا عندي أنا وحدي ؛ فأذاي هو رحمة توجب المغفرة ، وسيئة توجب الإحسان والشكر .
حتى جاء ذلك اليوم ، أتاني ذلك المريض الذي تأبى أوهامه عن هجره ، مستعصية لا تنفك عن تنغيصه ، جعلته يرى الصواب خطأً والجمال قبحًا والخير شرًا والعكس. أتاني يستنجد بي فقد قتل رجلًا صالحًا ، قد اعترضه عندما رأه يذبح قطًا أسود اللون - شيطان على حد وصفه- ، فبدلًا من ذبحه -الشيطان- ذبح ذلك الرجل الذي وقف أمامه يحمي ذلك القط المسكين، ذبحه بدمٍ باردٍ واقتلع عينه من محجرها ، واحتفظ بها في بطرمان ، أتاني بها ، فاجأني ، إنه يحمل عين إنسان بجذورها العصبية مقتلعة - إقتلاعًا- كنبتة اقتلعت بجذورها من تربتها الخصبة . قال لي -حائرًا- : هاهي العين ، ماذا أفعل بها يا دكتور ؟! لم أرد ، ظللت مذهول - لبرهة- استجمع خلايا عقلي المتناثرة تناثر شظايا لغم انفجر لتوه. فقد باغتني بذلك البطرمان ، أمامي قاتل يحمل عين مقتوله يقف بين يدي ، تذكرت أول جلسة له معي ، فأنا من زرعت فيه هذه الأوهام ؛ لأجنبه أوهامه السابقة ، أنا من صنعته ، فكيف اعتبره قاتلًا ! كيف أحاسبه !؟ تذكرت علبة السجائر وعلبة السكاكر ، لعبتي القديمة مع مرضاي ، أعرض عليه الإثنين ، وأنبه عليه أن التدخين محرمًا هنا ، لكنه حر الاختيار ، وبالطبع - وبديهيًا- سيأخذ الإثنين ، سيأكل السكاكر ، وبعد بضع ساعات سينسى تحذيري - أو يتناسى - ويشعل سيجارته ، فأطرده. رفض الخروج هذه المرة ، أبى أن يخرج حتى أدله ما العمل بتلك العين ، حينها فقط أخذت أطول تنهيدة في عمر البشرية جمعاء ، وقلت له - وأنا أفخم صوتي- : قف ، أترى ذلك الخط المستقيم المرسوم على الأرض أمام الباب ، قف في أوله ، وأخرج العين من البطرمان ، وأمسكها بيدك أعلى رأسك ، وأغمض عينك ، واتبع روحك وامشي إلى الأمام دون توقف لا تنحرف عن صراطك ، وردد : لا أرى لا أسمع لا أتكلم ، لا أرى لا أفهم لا اتكلم ، لا أرى لا أفكر لا اتكلم ، لا أرى لا أؤمن لا أتكلم. حتى وصل للنهاية ، وأمام النافذة ، دفعته منها ، فسقط ميتًا. ذاع بعدها أن مجنونًا قد مات منتحرًا من عيادة طبيبه النفسي، ولم استطع صبرًا على أوهامه التي تركها لي ، لذلك جئتكم اليوم الجلسة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مذكرات مخبأة في درج الكوميدينو- أشرف دولسي (1)

(1) أشرف دولسي في حقيقة الأمر لم أعد أكترث، مشيت خطوتين بالعدد قاصدًا المقهى، لكنني تراجعت، وقررت العودة، والصعود إلى منزلي، مشيت خط...